كتب الامام احمد بن حنبل

في مؤلفاته:
قال ابن الجوزي: “كان الإمام أحمد لا يرى وضع الكتب، وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله، ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة، ولنقلت عنه كتب، فكانت تصانيفه المنقولات”.

وهذه إشارة مهمة جداً في تصوير المنحى العام لمصنفات الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، فقد كانت تصانيفه المنقولات، على معنى أنه -رَحِمَهُ اللهُ- كان يجمع في مؤلفاته الأحاديث المرفوعة، والموقوفة، وفتاوى التابعين، وتفاسيرهم التي تلقوها عن الصحابة فيما يتعلق بتأويل القرآن وعلومه المختلفة.

فكونه يذهب الى كراهة وضع الكتب لا يتنافى إذن مع تأليفه لمجموعة من الكتب والمصنفات، والرسائل، ما دام يروي في تلك المصنفات ولا يرى، ويتبع ولا يبتدع، ويحيل ولا يتكفل.

وإليك جريدة بما نسب إلى الإمام أحمد من كتب:
1 – “المسند”. طبع مراراً
2 – “العلل ومعرفة الرجال”. ذكر العقيلي في “الضعفاء” أنه قرأه على عبد الله غن أبيه. طبع منه جزءان.
3 – “فضائل الصحابة”. فيه زيادات لابنه عبد الله وأبي بكر القطيعي. طبع في (مجلدين) بتحقيق وصي الله بن محمد عباس سنة (1403) هـ، مؤسسة الرسالة ببروت.
4 – “التفسير”. ذكره ابن النديم وابن الجوزي، ونقل عن الزجاج في “معاني القرآن” حيث قال فيه (4/ 166): “أكثر ما رويتُ في هذا الكتاب من التفسير فهو من كتاب “التفسير” عن أحمد بن حنبل”. وقال في موضع آخر منه (4/ 8): “روينا عن أحمد بن حنبل -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه “كتاب التفسير”، وهو ما أجازه لي عبد الله ابنه عنه”. ومع ذلك فقد أنكره الذهبي في “السير” (11/ 332 و 13/ 325).
5 – “الناسخ والمنسوخ”. مصورته في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري بالمدينة المنورة.
6 – “الزهد”. قال ابن حجر في “تعجيل المنفعة”: “إنه كتاب كبير في قدر ثلث “المسند” مع كبر “المسند” وفيه من الأحاديث والآثار مما ليس في “المسند” شيء كثير”.
فعلى هذا يكون المطبوع منه جزءاً يسيراً فقط.
7 – “الفرائض”. ذكره ابن النديم. وقال الذهبي في “السير” (11/ 228): “رأيت له ورقة من هذا الكتاب”. وفي “المناقب” (613) لإبن الجوزي ما يشير إلى أنه كان عند إبراهيم الحربي يرويه للناس.
8 – “الأسامي والكنى”. ذكره الوادي آشي في “برنامجه” ضمن مسموعاته. وقد طبع.
9 – “حديث شعبة”. ذكره ابن الجوزي والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (9/ 375).
10 – “التاريخ”. ذكره ابن الجوزي.
11 – “الورع”. نُسب إليه، وليس من تأليفه بل هو من تأليف أبي بكر المرّوذي (تلميذه). وقد طبع.
12 – “الرد على الزنادقة والجهمية”. وقد طبع مراراً.
13 – “كتاب أهل الردة والزنادقة”. يوجد في مكة في حوزة محمد حمزة، ومنه نسخة مصورة بالقاهرة. انظر “تاريخ التراث العربي” لسزكين (3/ 225). وهو مطبوع.
14 – “الإيمان”. ذكره ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (1/ 353) وتوجد منه مخطوطة في المتحف البريطاني. انظر “تاريخ التراث العربي” لسزكين (3/ 229).
15 – “طاعة الرسول”. ذكره ابن النديم.
16 – “الإمامة”. ذكره الذهبي في السير (11/ 335) وقال: “مجلدة صغيرة”.
17 – “نفي التشبيه”. ذكره الذهبي في السير (11/ 335) وقال: “مجلدة”.
18 – “المقدم والمؤخر في القرآن”. ذكره الخطيب في “تاريخ بغداد” (9/ 375). وفي ترجمة المروذي من “الطبقات” (1/ 62) لإبن أبي يعلى شيء من مضمونه.
19 – “جوابات القرآن”. ذكره الخطيب في “التاريخ” (9/ 375).
20 – “المناسك الكبير”. ذكره ابن النديم.
21 – “المناسك الصغير”. ذكره ابن الجوزي.
22 – “الأشربة”. ذكره ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (1/ 303). وهو مطبوع.
23 – “الوقوف والوصايا”. وصل إلينا ضمن “الجامع” للخلال. وهو مطبوع.
24 – “أحكام النساء”. وصل إلينا ضمن “الجامع” للخلال. وهو مطبوع.
25 – “الترجل”. وصل إلينا ضمن “الجامع” للخلال. وهو مطبوع،
26 – “الإرجاء”. وصل إلينا ضمن “الجامع” للخلال.
27 – “الفتن”. توجد منه نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق. وهو مطبوع.
28 – “فضائل أهل البيت”. ذكره الحاكم في “المستدرك” (3/ 157).
29 – “مسند أهل البيت”. مُستلّ من “المسند”. وهو مطبوع.

رسائل الإمام أحمد:
وتنسب إلى الإمام أحمد الرسائل التالية:
1 – “رسالة “السُّنة” المعروفة برسالة الإصطخري”: رواها ابن أبي يعلى في “الطبقات” (1/ 24 – 36).
2 – “رسالة كتبها إلى المتوكل في مسألة خلق القرآن”: أخرجها أبو نعيم في “الحلية” (9/ 216 – 219) ومن طريقه رواها ابن الجوزي والذهبي، وأثنى على إسنادها ثناء حسناً.
3 – “رسالة الحسن بن إسماعيل الربعي”: قصيرة جداً، أوردها ابن أبي يعلى في “الطبقات” (1/ 130).
4 – “رسالة عبدوس بن مالك العطار”: مطولة، أوردها ابن أبي يعلى أيضاً (1/ 241 – 246).
5 – “رسالة محمد بن عوف الطائي”: مطولة، نقلها ابن أبي يعلى (1/ 311 – 313).
6 – “رسالة محمد بن يونس السرخسي”: أوردها ابن أبي يعلى (1/ 329 – 330).
7 – “رسالة إلى مسدد بن مسرهد البصري (ت 228 هـ)”: مطولة، نقلها ابن أبي يعلى (1/ 341 – 345).
8 – “رسالة في الصلاة”: كتبها إلى مهنا بن يحيى الشامي، كما في “الطبقات” (1/ 348 – 380) وهي موضوعة على الإمام أحمد، كما قال الذهبي (11/ 287، 330)، والذي يقرؤها يجد أنها تتجافى مع أسلوبه وطريقته، مما يؤكد قول الذهبي.
وتوجد منها نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (2/ 13853 مجاميع) مؤلفة من (9) ورقات، ونسخة أخرى برقم (1/ 6786 مجاميع) مؤلفة من (12) ورقة. وهي مطبوعة بمصر بعنوان “الرسالة السنية في الصلاة وما يلزم فيها للإمام”.

ــــــــــ ،،، ــــــــــ

المسند
ديوان السنة النبوية

لا يذكر الإمام أحمد إلا ويذكر معه ذلك الديوان العظيم “المسند” والذي غابت في ضياء شمسه لوامع كتبه ومصنفاته الأخرى، لقد انتشر هذا الكتاب في الآفاق وسارت به الركبان، وكان له من المنزلة بين كتب الإسلام ما كان للإمام أحمد من المنزلة بين أئمة الإسلام الكبار.

وسيكون الحديث عن المسند في المباحث التالية:
– تاريخ تأليفه.
– وصفه.
– روايته.
– مكانته.
– الأعمال التي تمت عليه.

• تاريخ تأليف المسند:

لقد مر تاريخ تدوين السنة النبوية بعدة مراحل، فكانت في زمن الصحابة محفوظة في صدور الرجال إلا بعض الصحائف التي كانت بأيدي ثلة قليلة من الصحابة … وكذلك كان الحال في صدر زمن التابعين، إلى أن عهد عمر بن عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ- إلى حافظ زمانه ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) بجمع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فبدأ الجمع من يومئذ وبزغ فجر التدوين، فدونت السنة في تلك المرحلة الأولى في “جوامع” كجامع سفيان الثوري، وجامع سفيان بن عيينة، وجامع ابن جريج، وجامع فلان وفلان …

وكانت تلك “الجوامع” لا تتميز بأي نظام تصنيفي، وإنما كانت تجمع أحاديث فلان على حدة وأحاديث فلان على حدة، وهكذا، ويسمى المجموع الكلي لتلك المسموعات المترجمة على الشيوخ: الجامع.

ثم جاء دور”التصنيف”، والتصنيف يختلف عن التدوين؛ إذ إنه يعتمد على منهج محدد وترتيب منسق داخل الكتاب المؤلف.

فهناك من صنف الأحاديث التي رواها عن شيوخه على أبواب الفقه، فوضع كل حديث في كتابه المناسب وبابه المناسب. وهذا ما عرف “بالسنن”، كسنن أبي داود والترمذي وهناك من توسع أكثر فأضاف إلى أبواب الفقه علوماً أُخر، كالمغازي والتفسير والإيمان والتوحيد والفضائل، وغير ذلك، فكان كتاباً جامعاً، وذلك كـ: “صحيح الإمام البخاري” و”صحيح الإمام مسلم”.

وهناك من سلك مسلكاً آخر وكان غرضه تجميع أحاديث الصحابة صحابياً صحابياً، وإفراد مرويات كل صحابي في كتاب، وتكوين ديوان جامع من ذلك كله، وهو ما سمي بـ”المسند”.

فالمسند: هو الكتاب الذي يكون فيه حديث كل صحابي على حدة، صحيحاً كان أو حسناً أو ضعيفاً، من غير التفات إلى الموضوعات والأبواب، ويتبع في ترتيب مسانيد الصحابة طرائق عدة، فقد ترتب على حروف الهجاء، أو على القبائل، أو السابقة في الإسلام، أو الشرافة النسبية، أو غير ذلك، وقد يقتصر في بعضها على أحاديث صحايي واحد، كمسند أبي بكر، أو أحاديث جماعة منهم، كمسند الأربعة أو العشرة، أو طائفة مخصوصة يجمعها وصف واحد، كمسند المُقلِّين، ومسند الصحابة الذين نزلوا مصر إلى غير ذلك.

وهكذا كان “مسند الإمام أحمد” الذي يقع إلى جانبه ما يزيد على مئة كتاب بهذا العنوان، مثل: مسند الحميدي، ومسند أسد بن موسى، ومسند عَبد بنِ حُميد، ومسند الطيالسي.

متى بدأ الإمام أحمد بتصنيف مسنده؟

يرى الشيخ محمد أبو زهرة -رَحِمَهُ اللهُ- أن الإمام أحمد بدأ في تصنيف “المسند” مع بداية الطلب، أي في حدود سنة (180 هـ) قبل خروجه من بغداد.

وهذا الرأي بعيد، فأما أن يكون الإمام أحمد بدأ بجمع مادة “المسند” مع بداية الطلب فذلك ما لا يجادل فيه أحد، وأما أن يكون فكَّر في “المسند” وأخذ في تصنيفه منذ ذلك الحين فهناك من الأدلة ما يخالفه، وذلك أن أحاديث الشيوخ الذين روى عنهم الإمام أحمد كانت في ذلك الوقت عبارة عن “جوامع” لمرويات الشيوخ على ما وصفنا آنفاً، وبالتالي فتصنيف “المسند” لا يمكن أن يخصل لأحد إلا بعد استشراف ما عند الشيوخ من الأحاديث ليرتبها بعد ذلك على مسانيد الصحابة، وهذا مالم يكن قد توفر للإمام أحمد وهو في بداية الطريق.

بالإضافة إلى ذلك فإننا نجد من النقل ما يصرح بأن بداية تصنيف “المسند” كانت على رأس المئتين حينما رجع الإمام أحمد من رحلاته التي كان آخرها رحلته اليمنية إلى عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ). فقد روى الحافظ أبو موسى المديني بسنده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: “صنف أبي السند بعد ما جاء من عند عبد الرزاق”.

فالإمام أحمد لما أنهى تلك الرحلات التي رحلها إلى الأمصار الإسلامية التي كانت فيها الأحاديث، ويستوطنها الحفاظ والرواة، وجد نفسه قد دوَّن ما يتجاوز ثلاثة أرباع المليون 750.000) من الأحاديث، فجاءت فكرة تصنيف مسند يجمع أحاديث كل صحابي على حدة، وينتقي من ذلك العدد الهائل الأحاديث ذات الأسانيد المعروفة المشهورة.

• وصف المسند:

يتكون المسند من عدد كثير من الأحاديث التي رواها الصحابة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)؛ بعضها رواه الإمام أحمد بأسانيده إلى أولئك الصحابة، وهي تشكل معظم المسند، بالإضافة إلى زيادات رواها ابنه عبد الله عن عوالي شيوخه وأدرجها ضمن مسند أبيه، كما توجد زيادات لأبي بكر القطيعي راوي المسند عن عبد الله بن أحمد عن أبيه.

ويتطلب البحث أن نتفحص السند وهو في الوضع الذي كان عليه قبل أن يتصرف فيه عبد الله ابن الإمام بالترتيب والإضافات. ثم نتعرف على عدد أحاديثه إجمالاً وكيفية توزيعها على مسانيد الصحابة، وزوائد عبد الله والقطيعي.

• المسند في صورته التي تركه عليها أحمد:
يقول ابن الجزري -رَحِمَهُ اللهُ-:
إن الإمام أحمد شرع في هذا “المسند”، فكتبه في أوراق مفردة وفرقه في أجزاء منفردة، على نحو ما تكون المسوّدة، ثم جاء حلول المنية قبل حصول الأمنية، فبادر بإسماعه لأولاده وأهل بيته، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه، فبقي على حاله، ثم إن ابنه عبد الله ألحق به ما يشاكله، وضم إليه من مسموعاته، ما يشابهه ويماثله.

وهكذا كان “المسند” في بدايته؛ عبارة عن مجموعة من الأجزاء المنفردة بعضها عن بعض، وكل جزء يحتوي على مجموعة من الأوراق المنفردة هي الأخرى بحيث لا تربطها أرقام ولا يهتدى فيها إلى تسلسل معين.

• المسند بين يدي عبد الله بن أحمد:
وقد رتب عبد الله بن الإمام “المسند” ترتيباً لم يخرجه في حقيقة الأمر عن الصورة التي كان عليها عند أبيه، وقد وقع فيه خلل في جملة مواضع لا تمس جوهر الكتاب، من مثل إدراج عدد من أحاديث المكثرين في غير مسانيدهم، وتكرار الحديث الواحد بإسناده ومتنه لغير فائدة في إعادته، وتفريق أحاديث الصحابي الواحد في أكثر من موضع، والخلط بين أحاديث الشاميين والمدنيين، وعدم التمييز بين روايات الكوفيين والبصريين، وتداخل بعض أحاديث الرجال بأحاديث النساء، واختلاط مسانيد القبائل بمسانيد أهل البلدان. وقد نبه على ذلك الحافظ ابن عساكر في كتابه: “ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند”. ثم قال: “ولست أظن ذلك إن شاء الله وقع من جهة أبي عبد الله -رَحِمَهُ اللهُ- فإن محله في هذا العلم أوفى، ومثل هذا على مثله لا يخفى، وقد نُراه توفي قبل تهذييه، ونزل به أجله قبل تلفيقه وترتيبه، وإنما قرأه لأهل بيته قبل بذل مجهوده فيه خوفاً من حلول عائق موته دون بلوغ مقصوده فيما يرتضيه (2)”.

• عدة أحاديثه:
قال الحافظ أبو موسى المديني -وهو من جملة من وقع له المسند كاملاً عن شيخه ابن الحصين-:
“فأما عدد أحاديث “المسند” فلم أزل أسمع من أفواه الناس أنها أربعون ألفاً، إلى أن قرأت على أبي منصور بن زُريق ببغداد، أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: وقال ابن المنادي: لم يكن في الدنيا أحدٌ أروى عن أبيه منه؛ يعني: عبد الله بن أحمد بن حنبل، لأنه سمع “المسند”، وهو ثلاثون ألفاً، والتفسير، وهو مئة ألف وعشرون ألفاً، سمع منه ثمانين ألفاً والباقي وجادةٌ. فلا أدري: هل الذي ذكره ابن المنادي أراد به ما لا مكرر فيه، أو أراد غيره مع المكرر؟ فيصح القولان جميعاً، أو الاعتماد على قول ابن المنادي دون غيره؟ ولو وجدنا فراغاً لعددناه إن شاء الله تعالى”.

وعلق الشيخ أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ- على ذلك بقوله: “هو على اليقين أكثر من ثلاثين ألفاً، وقد لا يبلغ الأريعين ألفاً. وسيتبين عدده الصحيح عند إتمامه إن شاء الله”. اهـ. ولكنه عاجلته المنية قبل تحقيق الأمنية -رَحِمَهُ اللهُ- وقد عمل في “المسند” نحو الربع، ولو أتمه لكوشف بعين الحقيقة، ولصار اليقين الذي قطع به إلى المراجعة، فقد كشفت الطبعة الجديدة الصادرة عن “مؤسسة الرسالة” في (50) مجلداً؛ أن عدد أحاديث “المسند” (27647) حديثاً، بما في ذلك المكررات وزوائد عبد الله. والله أعلم.

• ترتيب الصحابة في المسند:
لقد توخَّى الإمام أحمد ترتيب الصحابة في مسنده حسب اعتبارات عدة، منها: الأفضلية، والسابقة في الإسلام، والشرافة النسبية، وكثرة الرواية. وذلك أنه بدأ “مسنده” بمسانيد الخلفاء الأربعة، وثنى بمسانيد بقية العشرة المبشرين بالجنة، وثلث بمسند أهل البيت، ثم تلاهم بمسانيد المكثرين من الرواية، كالعبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عمرو، ثم مسانيد الأمصار: مسند المكيين، ثم المدنيين, ثم الشاميين، ثم الكوفيين, ثم البصريين، ثم مسند الأنصار، ثم مسند النساء (3).

• زوائد المسند:
وتعتبر زوائد عبد الله على أصل “المسند” من جملة آثاره التي أكمل بها عمل أبيه في هذا الديوان العظيم. وذلك أن عبد الله لما تلقى “المسند” عن أبيه على الصفة التي مرت آنفاً، قام بعد ذلك بترتيبه وتهذيبه، وفي ذلك يقول الذهبي: وهذا كتاب “المسند” لم يصنفه هو -يعني الإمام أحمد- ولا رتبه، ولا اعتنى بتهذيبه، بل كان يرويه لولده نسخاً وأجزاء، ويأمره أن: ضع هذا في مسند فلان، وهذا في مسند فلان  اهـ. فالمسند بالصورة الحالية من عمل عبد الله، وإلى جانب العمل الفني في الترتيب والتهذيب أضاف عدداً غير قليل من الأحاديث بأسانيده عن شيوخ أُخَر غير أبيه، قال الذهبي: “وله زيادات كثيرة في “مسند” والده واضحة عن عوالي شيوخه” اهـ.

وجملة الشيوخ الذين روى عنهم الإمام أحمد في “المسند” (283) شيخاً، وجملة شيوخ عبد الله في زوائده (173) شيخاً، وذلك على ما أحصاه ابن الجزري.

وأما زيادات أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي (ت 368 هـ) فقد صرح بوجودها أكثر من واحد من العلماء (4). فقد قال ابن الجزري في سياق إسناده في تلقي “المسند”: “فأخبرني به كذلك مع الزيادات فيه لعبد الله بن أحمد وأبي بكر القطيعي الشيخ الصالح الأصيل رحلة البلاد وجامع لواء الإسناد وملحق الأحفاد بالأجداد اللإمام صلاح الدين أبو عبد الله وأبو عمر محمد بن الشيخ الصالح العالم تقي الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ عز الدين … إلى أن قال: أخبرك بجميع مسند الإمام أحمد من رواية ابنه عبد الله، وبما فيه من زيادات ابنه عبد الله عن غير أبيه، وبزيادات القطيعي أيضًا، وهي في مسند الأنصار – رضي الله عنهم -. اهـ

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الزيادات: ثم زاد ابن أحمد زيادات، وزاد أبو بكر القطيعي زيادات، وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة. اهـ.

• رواية المسند:
انفرد عبدُ الله بن أحمد بن حنبل برواية “المسند” عن أييه، مع أنه سمعه مع أخيه صالح وابن عم أبيه حنبل بن إسحاق، وصالح -وهو أكبر أولاد الإمام – كان كثيراً ما يتغيَّبُ عن السماع سعياً وراء عياله، ولعلَّ حنبلَ بن إسحاق اهتمَّ بفقه الإمام أحمد أكثر من اهتمامه بحديثه، ومن ثَمَّ انفرد عبد الله بسماع سائر “المسند” عن أبيه، بل إن بعض الأحاديث سمعها منه مرتين وثلاثاً، وقد روى لنا “المسند” كما سمعه وزاد عليه أحاديث عن عوالي شيوخه وقد بلغ عددهم مئة وثلاثةً وسبعين شيخاً.

وعبد الله وثَّقه النسائي والدارقطني والخطيب وغيرهم، وحدَّث عنه النسائي وابن صاعد، وأبو علي بن الصواف، وأبو بكر بن النجاد، وأبو بكر القطيعي، وخلق كثير.

كانت ولادته سنة (213 هـ)، وتوفي سنة (290 هـ) عن سبع وسبعين سنة.

وقد نقل “المسند” برواية ابن الحُصين عن ابن المُذْهب، عن القطيعي، عن عبد الله بن أحمد، عن الإمام أحمد.

• ترجمة القطيعي (الراوي عن عبد الله):
هو أبو بكر أحمدُ بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعيُّ، ولد سنة (274 هـ)، وسمع “المسند” مع عمِّ أمه عبد الله بن الجصَّاص، وكان لأبيه جعفر اتصالٌ بالدولة، وكان عبد الله ابن الإمام أحمد يقرأ “المسند” لإبن ذلك السلطان، فحضر القطيعيُّ أيضاً، وسمعه منه.

وقد اتهمه ابنُ أبي الفوارس، فقال: لم يكن بذاك، له في بعض “المسند” أصولٌ فيها نظر، ذُكر أنه كتبها بعد الغرق. وكانت القطيعة -موطن سكناه- قد غرقت، فغرق فيها بعض كتبه، فغمزه الناس لاستحداث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماعه. وقد دافع ابن الجوزي عن هذه التهمة بقوله: ومثلُ هذا لا يُطعنُ به عليه، لأنه يجوز أن تكون تلك الكتب التي غرقت قد قُرئت عليه، وعورض بها أصله، وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني، وابن شاهين، والبرقاني وأبي نعيم والحاكم.

وقال الخطيب البغدادي: “لم يمتنع أحدٌ من الرواية عنه، ولا ترك الإحتجاج به”.
وقال الحاكم: “ثقة مأمون”.

توفي أبو بكر سنة (368 هـ) وله خمس وتسعون سنة.

• ترجمة ابن المُذهِب (الراوي عن القطيعي):
هو أبو علي الحسنُ بن علي ابن المُذْهِب، البغدادي الواعظ.
ولدَ سنة (355 هـ).

قالَ الخطيب البغدادي: “كَتَبْنا عنه، وكان يروي عن ابن مالك القَطيعي “مسند” أحمد ابن حنبل بأسره، وكان سماعه صحيحاً إلا في أجزاء منه، فإنه ألْحقَ اسمَه فيها”.

وقد دافع ابن الجوزي عن هذه التهمة أيضاً بقوله: “هذا لا يوجب القدح، لأنه إذا تيقن سماعه للكتاب جاز أن يكتب سماعه بخطه”.

وقال أبو بكر ابن نقطة: “ليتَ الخطيب نبَّه في أيِّ مسند تلك الأجزاء التي استثنى، ولو فعل لأتى بالفائدة، وقد ذكرنا أن مسندي فضالة بن عبيد، وعوف بن مالك لم يكونا في نسخة ابن المذهب، وكذلك أحاديث من مسند جابر، لم توجد في نسخته، رواها الحرَّاني عن القطيعي، ولو كان ممن يُلحقُ اسمه كما قيل لألحق ما ذكرناه أيضاً، والعجب من الخطيب يَرُدّ قوله بفعله”.

وقد روى الحافظ ابن عساكر “المسند” من طريق ابن المذهب وليس في نسخته مسند فضالة بن عبيد وعوف بن مالك، قال في كتابه “ترتيب أسماء الصحابة”: “عوفُ بن مالك الأشجعي في جزءٍ فيه فضالة بن عبيد، ولم يقع إلينا مسموعاً”.

وقال ابن حجر في “أطراف المسند”: “وهو فوتٌ لإبن المُذهب على القطيعي لم يسمعه منه، وقد رواه عن القطيعي أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران، وحدَّث به عنه أبو الحسن علي بن العلاف، وهذا العلاّف قد أجاز لأبي القاسم بن عساكر ولأبي موسى المديني وطائفة، فيمكن اتصاله بالإجازة من طريق بعضهم”.

توفي ابن المُذهب سنة (444 هـ).

• ترجمة ابن الحصين (الراوي عن ابن المُذْهب):
هو أبو القاسم هبةُ الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحُصين الشيباني البغدادي. ولد سنة (432 هـ).

قال ابن الجوزي؛ “كان ثقةً، صحيح السماع، وسمعتُ منه “مسند” الإمام أحمد جميعه”.
وقال السمعاني: “شيخٌ، ثقة، دَيِّنٌ، صحيح السماع، واسعُ الرواية”.

وقد حدَّث عن ابن الحُصين أيضاً أبو القاسم بن عساكر، وأبو موسى المديني، وحنبل ابن عبد الله المكبِّر.

وعن ابن الحصين اشتهرت روايةُ “المسند” وذاع في جميع البلدان، ورواه العددُ الجمُّ من الحفاظ الثقات، وتصدوا لإسماعه وروايته. توفي ابن الحُصين سنة (525 هـ).

• طريق أخرى في رواية المسند:
وللحافظ أبي موسى المديني طريقٌ آخر للمسند ينتهي إلى القطيعي، قال عنه في كتابه “خصائص المسند”: “فإن مما أنعم الله علينا أن رزقنا سماع كتاب المسند للإمام الكبير، إمام الدين أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى – فحصّل لي والدي -رَحِمَهُ اللهُ- وجزاه عني خيراً – إحضاري قراءته سنة خمس وخمس مئة على الشيخ المقرئ بقية المشايخ أبي علي الحسن بن الحداد، وكان سماعه لأكثره عن أبي نعيم أحمد ابن عبد الله الحافظ -وما فاته منه قرئ عليه بإجازته له- وأبو نعيم كان يرويه عن شيخيه أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، وأبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، على ما تنطقُ فهرست مسموعاتي بخط والدي -رَحِمَهُ اللهُ-.

1 – أما أبو علي ابن الحدّاد، فهو مسند العصر، الحسن بن أحمد بن الحسن بن محمد بن علي بن مهرة الأصفهاني، شيخ أصبهان في القراءات والحديث جميعاً.
ولد سنة (419 هـ)، وبدأ بالسماع سنة (424 هـ) وبعدها، وأكثر عن أبي نعيم الحافظ، ومن جملة ما سمع منه “مسند” الإمام أحمد.
قال السمعاني: “هو أجلُّ شيخٍ أجاز لي، رَحَل الناس إليه، وكان خيراً صالحاً ثقة. توفي سنة (515 هـ)”.

2 – وأما أبو نعيم: فهو الحافظ، الثقة، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، الأصبهاني، صاحب كتاب “حلية الأولياء”، و”تاريخ أصبهان”، و”معرفة الصحابة”، و”المستخرج على الصحيحين”.
ولد سنة (336 هـ).
كان حافظاً مبرِّزاً، عاليَ الإسناد، تفرَّد في الدنيا بشيء كثيرٍ من العوالي، وهاجر إلى لُقِيِّهِ الحفاظ.
توفي سنة (430 هـ).

3 – وأما أبو علي ابن الصواف: فهو الشيخ، المحدث، الثقة، الحجة، محمد بن أحمد ابن الحسن بن إسحاق البغدادي.
ولد سنة (270 هـ).
قال الدارقطني: “ما رأت عيناي مثلَ أبي علي ابن الصواف”.

وقال ابن أبي الفوارس: “كان أبو علي ثقة مأموناً، ما رأيتُ مثله في التحرز”.
توفي سنة (359 هـ) وله تسع وثمانون سنة”.

وممن سمع “المسند” من ابن الحصين: المسند، المعمَّر، الصالح، أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة، الواسطي البغدادي، الرُّصافي، المكبِّر، وهو آخرُ من روي “المسند” عنه، فالحق الصغار بالكبار.

ولد سنة (511 هـ)، فبادر والدُه إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني، فأعلمه أنه ولد له ولدٌ ذكر فقال: “سمِّ ابنك حنبلاً، وأسمعه “المسند” فإنه يُعمَّر ويُحتاج إليه”. فسمَّعه أبوه وهو في الثانية عشرة من عمره جميعَ “المسند” من ابن الحصين بقراءة نحويِّ عصره أبي محمد بن الخشَّاب، وذلك في رجب وشعبان سنة (523 هـ).

قال ابن الأنماطي: “تتَّبعتُ سماع حنبل للمسند من عدة نُسخ وأثبات، وخطوط أئمة أثبات، إلى أن شاهدتُ بها أصول سماعه لجميع “المسند” سوى أجزاء من مسند ابن عباس، شاهدت بها نقل سماعه بخط من يوثق به. وسمعتُ منه جميع “المسند” ببغداد في نيف وعشرين مجلساً، ثم أخذتُ أرغِّبه في السفر إلى الشام، وقلتُ له: يحصُلُ لك من الدنيا شيء، وتُقْبلُ عليك وجوه الناس، فقال: دعني، فوالله ما أسافرُ من أجلهم، ولا لما يحصُل منهم، إنما أسافر خدمةً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أروي أحاديثه في بلد لا تروى”.

قال: “ولما علم الله تعالى نيته الصالحة، أقبل بوجوه الناس عليه، وحرك الهمم للسماع عليه، فاجتمع عليه جماعةٌ ما اجتمعوا بمجلس بدمشق”.

قال ابن الجزري: “وذلك في مجالس، آخرها في صفر سنة ثلاث وست مئة”.

قال ابن الأنماطي: “فحدَّث بالمسند بالبلد (يعني دمشق) مرة، وبالجامع المظفري (أي: بالصالحية) أخرى، وازدحم عليه الخلقُ، وسمع منه السلطان الملك المعظم وأقاربه، وأبو عمر الزاهد، وسائر المقادسة، وحدّث عنه الكبار بالمسند، كالشيخ الفقيه ببعلبك (ت: 617 هـ)، وقاضي الحنفية شمس الدين عبد الله بن عطاء (ت: 673 هـ)، والشيخ تقي الدين بن أبي اليسر (ت: 672 هـ)، والشيخ شمس الدين ابن قدامة (ت: 682 هـ)، والشيخ شمس الدين أبي الغنائم ابن علّان (ت: 631 هـ)، والشيخ أبي العباس ابن شيبان (ت: 685 هـ)، والشيخ فخر الدين ابن البخاري (ت: 690 هـ)، والمرأة الصالحة زينب بنت مكِّي (ت: 688 هـ).

وأما من حدَّث عنه ببعض “المسند” فعددٌ كثير، ورجع إلى وطنه، فمرّ على حلب، فحدَّث بالمسند بها، ثم بالمَوْصل، فحدث بالمسند بها أيضًا ويإربل، ودخل إلى بغداد بخيرٍ كثير.

فتوفي بالرصافة في نصف المحرَّم سنة (604 هـ) عن نحو ثلاث وتسعين سنة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

• طرق المتأخرين في رواية المسند:
وعن حنبل روى “المسند” الإمامُ، العالم، المحدِّث، الفقيه، الصَّالح، الثقة، الأمين، فخر الدين، أبو الحسن، علي بن أحمد بن عبد الواحد، السَّعدي، المقدسى، الحنبلي، الشهير بابن البخاري، المتوفى سنة (690 هـ) بجبل قاسيون.

قال ابن الجزري: “وقد قرئ عليه “المسند” مرات، آخرها في سنة (689 هـ)، سمعه منه جماعات بقراءة الإمام كمال الدين أحمد بن أحمد بن محمد ابن الشريشي (ت: 718 هـ)، منهم شيختنا أم محمد ست العرب بنت محمد (ت: 767 هـ)، وآخرهم شيخنا صلاح الدين محمد بن أحمد”.

وصلاح الدين: هو الشيخ الصالح، الصدوق، الدَّيِّن، الخيِّر، المُسْنِد، محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن شيخ الإسلام أبي عمر محمد بن أحمد بن قُدامة، المقدسي، الحنبلي.

قال ابن الجزري: أخذتُ عنه “المسند” كاملاً بقراءتي وقراءة غيري في نحو سبع سنين.
وسببه أن نسخة أصل سماعه كانت بخط الحافظ الضياء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فوُجد بعضها، وكان شيخنا الحافظ الكبير شمس الدين أبو بكر ابن المحب يُحرضنا على سماع “المسند” منه، ويقول: لا تشكُّوا في أنه سمعه كاملاً، فكنا نقرؤه من نسخة وَقْفِ الباذرائية (مدرسة لا تزال إلى يومنا هذا بمحلة العمارة الجُوَّانية في الشمال الشرقي من جامع بني أمية) لوضوحها، وكان بعض المحدثين قد احتاط عليها، ولا يُعطي منها شيئاً إلا بعد تعب كثير فطالت المدة لذلك.

وسمعه أيضاً كلاملاً الشيخُ صدرُ الدين سليمان الياسوفي (ت: 789 هـ)، والشيخ بدر الدين محمد بن مكتوم، والشيخ شهاب الدين أحمدُ بن شيخنا عماد الدين بن الحُسباني (ت: 815 هـ)، والشيخ شهاب الدين أحمد بن الشيخ علاء الدين حِجِّي (ت: 816 هـ)، والمُحدِّث شمس الدين محمد بن محمود بن إسحاق الحلبي، والشيخُ الإمام ناصرُ الدين محمد بن ظُهيرة المكي (ت: 817 هـ)، وصاحبنا أبو عبد الله محمد ابن محمد بن ميمون البَلوي الأندلسي (ت: بعد التسعين وسبع مئة)، والفقيهُ الفاضل شمس الدين محمد بن عثمان بن سعد بن السَّقَّا المالكي وغيرهم.

وسمع بعضه عليه جماعة كثيرون.

ولم يظهر سماعُه بالمجلد الثاني من مسند أبي هريرة، ولا بمسند عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي آخره مسند أبي رِمثة نحو ثلاث أوراق، ولا بمسند الكوفيين، ومسند ابن مسعود، ومسند ابن عمر، ومسند الشاميين، ومسند المكيين، لعدم وقوفنا على ذلك من نسخة الحافظ الضياء، فكنا نقرأ ذلك عليه إجازةً إن لم يكن سماعاً، فظهر قبل موته مجلدان من ذلك بخطِّ الحافظ الضياء، وفيهما أصلُ سماعه، فقال لنا الحافظ ابن المحبِّ: “ألم أقل لكم: إنه سمع جميع “المسند”. ثم بعد وفاة الشيخ صلاح الدين ظهر تتمَّةُ “المسند” بخط الحافظ الضياء، وظهر سماعُه فسُرَّ طلبةُ الحديث بذلك”.

وكانت وفاته سنة (780 هـ) بمنزله بدَيْر الحنابلة بسَفْح قاسيون.

وذكر المُحَدِّثُ المتقنُ الشيخ أبو بكر محمدُ بن خير الإشبيلي، التوفى سنة (575 هـ)، في “فهرسته” من مروياته “مسند” الإمام أحمد، وقال: “حدثني به الشيخ أبو محمد بن عتاب إجازةً، قال: حدثنا به أبو عمر بنُ عبد البر إجازةً، عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: حدثنا أبو بكر أحمدُ بن جعفر بن حمدان بن مالك، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي -رَحِمَهُ اللهُ-.

ثم قال: قال ابن عبد البر: وكذلك ناوَلَنيه وأجازه لي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الوَهراني، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه -رَحِمَهُ اللهُ-“.

قال أبو محمد ابن عتاب: “وحدثني به أيضاً أبو عمر أحمد بن محمد بن الحذَّاء، وأبو القاسم حاتِمُ بن محمد الطرابُلسي، قالا: حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الوهراني، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك، عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل، عن أبيه”.
وذكر أيضاً إسناده من طريق ابن الحُصين.

وقال القاسم بن يوسف التُّجيبيُّ السبَّتي المتوفى سنة (735 هـ) في “برنامجه” (5) ص 121 – 122: “سمعتُ يسيراً من “المسند”، وذلك جميع مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، على الشيخ الفقيه المفتي علاء الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان بن سالم بن سلامة الدمشقي الشافعي، المعروف بابن العطار، وأجازنا جميعه بحقِّ سماعه من أبي علي حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة الرُّصافي البغدادي المكبِّر بجامع المهدي بالرصافة، بحقّ سماعه لجميعه من أبي علي الحسن بن علي بن المذهب التميمي، بسماعه من الإمام أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، بسماعه من أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد، بسماعه من أبيه أحمد بن محمد بن حنبل، -رَحِمَهُمْ اللهُ أَجْمَعِينْ-.

وأخبرنا أيضًا به الشيخُ الفقيهُ الإمامُ -جار الله تعالى ونزيل حَرَمه- الأمين فخر الدين أبو عمرو عثمان بن محمد المالكي فيما شافهنا به من إذنه، وأقرَّ لنا بروايته، قال: قرأتُه على سفير الخلافة العباسية نجيب الدين أبي الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني في سنة إحدى وستين وست مئة بمنزله من القاهرة، بحقِّ سماعه من أبي محمد عبد الله بن أحمد الحربي في سنة ست وتسعين وخمس مئة ببغداد، بسماعه من أبي القاسم ابن الحصين المذكور بالسند المذكور.

وكتب إلينا عامّاً المسنِدُ الأجلُّ، فخر الدين، أبو الحسن عليُّ بن اللإمام أبي العباس أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، المعروف بابن البخاري، -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قال: سمعتُ جميع هذا “المسند” على حنبل المذكور، وهو آخرُ من روي عنه في الدنيا”.

وقال العلامة المحدث محمد بن جابر الوادي آشي الأصل، التونسي مولداً وإقامة، المتوفى سنة (749 هـ)، في “برنامجه”:
ناوَلَني “مسند الإمام أحمد” الشيخ جمال الدين أبو يعقوب يوسف المِزّي بدمشق، وكان في أربعة وعشرين سفراً، وأجازنيه، وحدثني به بحق سماعه لجميعه على أبي الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علّان القيسي، ويجميعه إلا مسند بني هاشم على أبي العباس أحمد بن شيبان بن تغلب، بسماعهما من حنبل بن عبد الله الرصافي، عن أبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحُصين، عن أبي علي ابن المذهب، عن أبي بكر القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، مع ما فيه من زيادات عبد الله عن شيوخه”.

وقد ذكر الوادي آشي أن صفي الدين محمود بن أبي بكر بن محمود الأُرْمَوي القرافي المتوفى سنة (723 هـ) قرأ “المسند” على المسلَّم بن علان.

وذكر أيضاً أن الإمام المحدِّث البارع المتقن شهاب الدين أحمد بن فرْح بن محمد الإشبيلي الأندلسي الشافعي المتوفى سنة (699 هـ) سمع “المسند” على شرف الدين عبد العريز بن محمد الأنصاري، بسماعه من عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربي، بسماعه من ابن الحُصين.

• منزلة المسند بين كتب الحديث:
كان الإمام أحمد يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا “المسند” فإنه سيكون للناس إماماً.
وقال الحافظ أبو موسى المديني (581 هـ): “وهذا الكتاب أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعله إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأً ومستنداً”.

إن “مسند الإمام أحمد” هو أجلّ كتاب في الحديث في عصر المؤلف وما بعده، وهو المورد الثجاج لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفيه من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم، بل البخاري، وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة.

وقد شهد لهذا “المسند” المحدثون في القديم والحديث بأنه أجمع كتب السنة للحديث، وأوعاها لكل ما يحتاج إليه المسلم في زاده ومعاده، فهو كتاب لا تزال بركاته شاملة، يقدره من يعرف قدر السنة النبوية الفاضلة، ولا يزال هذا العمل مشكوراً للإمام أحمد، فجزاه الله خير الجزاء.

وهو الكتاب النفيس الذي يُرغب في سماعه وتحصيله، وكان يرحل إليه، إذ كان مصنفه الإمام -المقدم- في معرفة هذا الشأن، والمعترف بفضله عند الفرق في سائر الأزمان.

ومع جلالة قدر كتاب “المسند” وحسن موقعه عند ذوي الألباب، فالوقوف على المقصود منه متعسر، والظفر بالمطلوب منه بغير تعب متعذر، لأنه غير مرتب على أبواب السنن، ولا مهذب على حروف المعجم لتقريب السنن، وإنما هو مجموع على مسانيد الرواة من الرجال والنساء، لا يسلم من طلب منه حديثاً من نوع من الملال والعناء (6).

وفي هذا المضمار يقول الشيخ عبد القادر بن بدران: واعلم أيها الطالب للحق أن البحر الزاخر في هذا الموضوع، والمورد العذب، والوابل الصَّيِّب، إنما هو مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل – رضي الله عنه – وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وإنما منع من الإشتغال به اشتغالاً كالإشتغال بالسنن أمور:

أحدها: كونه مرتباً على أحاديث الصحابة، وهذا الترتيب أصبح غير مألوف عند المتوسطين والمتأخرين، فصار بحيث لو أراد محدث أن يجمع أحاديث باب منه احتاج إلى مطالعته من أوله إلى آخره، وهذا أمر عسير جداً.
ثانيها: عزة وجوده لطوله؛ فإنه قد ضمّ ثلاثين ألف حديث، وزاد عليه ولده الإمام عبد الله عشرة آلاف حديث، فصار أربعين ألفاً.
ثالثها: أن عزة وجوده كانت سبباً لعدم خدمته كما خُدمت السنن وغيرها من كتب الحديث.

فالمسند من جهة كونه يتجه إلى جمع أحاديث الصحابة واحداً واحداً، ومحاولة حصر مروياتهم، كان بعيداً عن اهتمام كثير من الناس الذين لم يكن يعنيهم هذا المقصود بقدر ما كان يعنيهم معرفة الأحاديث المحتج بها في المسائل الفقهية والموضوعات الشرعية، والتي كانت طريقها ممهدة وسبيلها ميسرة في كتب الصحاح والسنن. قال الحافظ ابن حجر: …. فإن النفوس تركن إلى من أخرج له بعض الأئمة الستة أكثر من غيرهم لجلالتهم في النفوس، وشهرتهم، ولأن أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب أن يقتصر فيه على ما يصلح للإحتجاج أو الإستشهاد، بخلاف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع. اهـ

وإذا نظرنا إلى “المسند” من جهة كونه مستوعباً للسنة إلا قليلاً (7)، فإن ذلك يعطي هذا الكتاب الجليل قيمة متفردة، ويبوئه مكانة متميزة، فإنه يكاد يستوعب جملة ما في الكتب الستة من أحاديث إلى جانب ما تفرد به من زيادات أخرى، حتى إن بعض العلماء كان يستغني بحفظ “المسند” عن حفظ الكتب الستة، فقد قال ابن الجزري: “حدثني شيخنا اللإمام العالم شيخ الفقهاء شمس الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب الشافعي، -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قال: سئل الشيخ الإمام الحافظ أبو الحسين علي بن الشيخ اللإمام الحافظ الفقيه محمد اليونيني -رَحِمَهُمَا اللهُ-: أنت تحفظ الكتب الستة؟ فقال: أحفظها وما أحفظها، فقيل له: كيف هذا؟ فقال: أنا أحفظ “مسند أحمد” وما يفوت “المسند” من الكتب الستة إلا قليل، أو قال: وما في الكتب هو في “المسند” يعني إلا قليل، وأصله في المسند، فأنا أحفظها بهذا الوجه”. أو كما قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

• درجة أحاديث المسند:
قال الخطيب البغدادي: “ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود السجستاني وأبي عبد الرحمن النسوي، وأبي عيسى الترمذي، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب المسانيد الكبار مثل مسند أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأبي يعقوب إسحاق ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وأبي بكر وأبي الحسن عثمان ابني محمد بن أبي شيبة وأبي خيثمة زهير بن حرب النسائي، وعبد بن حميد، وأحمد بن سنان الواسطي.

فكتب المسانيد بعامة -ومنها مسند الإمام أحمد- تقع في المرتبة الثالثة بعد الصحيحين والسنن الأربعة، وذلك لأنها لم تلتزم الإنتقاء والإخراج للأحاديث التي يحتج بها في الأحكام، لأن المقصود من وضعها مطلق الجمع لمرويات كل صحابيٍّ صحابيٍّ”.

قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: “كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة (8)، التي هي: الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي، وما جرى مجراها في الإحتجاج بها والركون إلى ما يورَدُ فيها مطلقاً، كمسند أبي داود الطيالسي، ومسند عبيد الله بن موسى، ومسند أحمد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند عبد بن حميد، ومسند الدارمي، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند البزار، وأشباهها.
فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كلّ صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجاً به”.

وقال الحافظ ابن حجر معقباً على كلام ابن الصلاح: “وأما من يصنف على المسانيد فإن ظاهر قصده جمع حديث كل صحابي على حدة، سواء أكان يصلح للإحتجاج به أم لا”.

وهذا هو الظاهر من أصل الوضع بلا شك، لكن جماعة من المصنفين في كل من الصنفين خالف أصل موضوعه فانحط أو ارتفع، فإن بعض من صنف على الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة؛ بل والباطلة، إما لذهول عن ضعفها وإما لقلة معرفة بالنقد.

وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابي فأخرج أصح ما وجد من حديثه. كما رويناه عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى في “مسنده” أصح ما وجده من حديث كل صحابي، إلا أن لا يجد ذلك المتن إلا من تلك الطريق، فإنه يخرجه. ونحا بقي بن مخلد في “مسنده” نحو ذلك. وكذا صنع أبو بكر البزار قربياً من ذلك، وقد صرح ببعض ذلك في عدة مواضع من “مسنده” فيخرج الإسناد الذي فيه مقال ويذكر علته، ويتعذر عن تخريجه بأنه لم يعرفه إلا من ذلك الوجه.

وأما الإمام أحمد فقد صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى “مسنده” وأنه كله صحيح عنده، وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات، وان كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره. وهذا يدل على أنه انتخبه. ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها. وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق، قال: جمعنا أحمد أنا وابناه عبد الله وصالح، وقال: “انتقيته من أكثر من سبعمئة ألف وخمسين ألفاً فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة” (9).

فهذا صريح فيما قلناه؛ إنه انتقاه، ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة، فلا يمنع ذلك صحة هذه الدعوى، لأن هذه أمور نسبية، بل هذا كاف فيما قلناه؛ إنه لم يكتف بمطلق جمع حديث كل صحابي.

فكلام الحافظ ابن حجر يقيد الإطلاق الوارد في كلام الخطيب وابن الصلاح من أن المسانيد تترتب من وراء الصحاح والسنن؛ لأنها لم تلتزم الصحة ولا الإنتقاء، فمسند الإمام أحمد قد التزم الإنتقاء على الرغم من كثرة الأحاديث التي اشتمل عليها، فهو بهذا يضاهي السنن ويقع في مصافها من حيث درجة الصحة الإجمالية، حتى قال الحافظ ابن حجر: وليست الأحاديث الزائدة في “مسند أحمد” على ما في “الصحيحين” بأكثر ضعفاً من الأحاديث الزائدة على “الصحيحين” من “سنن أبي داود” و”جامع الترمذي”.

وبعد، فهل يصح إطلاق القول بأن ما في “المسند” صحيح في الجملة، على معنى أن الرجال الذين أخرج لهم الإمام أحمد في كتابه هذا هم من رجال الصحيح، ولو على مثل شرط ابن خزيمة أو ابن حبان؟

والجواب: أن هناك من ادعى الصحة في “المسند” كما سبقت الإشارة في كلام ابن حجر إلى الحافظ أبي موسى المديني (581 هـ) أنه ذهب إلى القول بذلك، وهذا نصه في “خصائص المسند”: ولم يخرّج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طُعن في أمانته.

وقال في موضع لاحق: ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد، -رَحِمَهُ اللهُ- “مسنده” قد احتاط فيه إسناداً ومتناً. ولم يورد فيه إلا ما صح عنده .. ثم ساق مثالاً لقوله.

فعلى قول الحافظ أبي موسى يكون كل ما في “المسند” صحيحاً، وهذا القول لم يذهب إليه أحد مت العلماء الكبار -فيما نعلم- غيره، ويبدو أن هذا القول كان شائعاً بين الناس في أصبهان -وهي بلاد الحافظ أبي موسى- وخراسان، حتى عُرض سؤال على ابن الجوزي (597 هـ) في بغداد حول هذا الموضوع، ذكره في “صيد الخاطر”فقال:
سألني بعمق أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح؟ فقلت: نعم. فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني، يعظمون هذا القول، ويردونه، ويقبحون قول من قاله! فبقيت دهشاً متعجباً. وقلت في نفسي: واعجباً! صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً، وما ذلك إلا أنهم سمعوا اهديث ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد.

وليس كذلك، فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء، ثم هو قد ردّ كثيراً مما روى ولم يقل به، ولم يجعله مذهباً له. أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ: مجهول؟ ومن نظر في كتاب “العلل” الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في “المسند” وقد طعن فيها أحمد. اهـ.

فادعاء أن ما اشتمل عليه “المسند” كله صحيح يخالف الواقع، إذ إن الطعن في الحديث وإيراده في كتب العلل يؤذن بعدم سلامته ونزوله عن درجة الصحيح إن لم يكن ضعيفاً أو موضوعاً، وقد أورد الخلال جملة من أحاديث “المسند”، في كتابه “العلل” ويوجد في كتاب “العلل” للإمام أحمد نفسه أحاديث من “المسند”، وقد أورد ابن الجوزي جملة من أحاديث “المسند” أيضاً في كتابيه “الموضوعات” و”العلل المتناهية”، مما يدل على أن “المسند” لا يخلو من الأحاديث الضعيفة، وإن كان المحققون لم يسلموا ببعض ما ادُّعي فيه الضعف الشديد والوضع.

إذن فليس هناك من العلماء من أيد الحافظ أبا موسى المديني في ذهابه إلى القول بصحة ما في “المسند” من حديث، اللهم إلا السيوطي (911 هـ) فإنه عد جملة ما في “المسند” صالحاً للإحتجاج، فقد قال في مقدمته للجامع الكبير: وكل ما كان في “مسند أحمد” فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن. اهـ

وتوسط الشيخ عبد القادر ابن بدران فاعتبر أحاديث الأحكام في “المسند” كلها صحيحة، فقد قال:
وقد حكى الحفاظ أن الإمام أحمد اشترط أن لا يخرج في “مسنده” إلا حديثاً صحيحاً عنده. قلت: وهذا صحيح بالنسبة إلى أحاديث الأحكام. فقد روي عنه أنه قال: إذا كان الحديث في الحلال والحرام شددنا، وإذا كان في غيره تساهلنا … إلى أن قال:
ومهما تعصب القوم فإن أحاديث “المسند” كلها يصح الإحتجاج بها، وهي صحيحة على طريقته التى استقام عليها، كما أشرنا إلى بعض ذلك عند الكلام على أصوله. ولعل الذين قالوا بضعف أحاديث من مسنده جاءتهم من طرق ضعيفة غير طريقه، فضعفوها باعتبار ما جاءهم من طرقها، وكثيراً ما يذهب إلى مثل هذا أصحاب الحديث ممن لا يحيط علماً بالطرق، فتأمل هذا، واحفظه، واعتبر به كتب الحديث، فإنك تجد الأمر واضحاً.

وهذا الرأي محل نظر، فقد أورد ابن القيم في كتاب “الفروسية” عدة أمثلة من “المسند” ذاته، وفي أحاديث الأحكام، وأرفقها بعللها التي طعن بها الإمام أحمد نفسه في تلك الأحاديث فيما رواه أصحابه عنه.

وإذا تبين أن “المسند” ليس خالصاً للصحيح، فإن القسم الذي ينزل عن درجة الصحة منه اختلف فيه العلماء، وقد رأينا أن السيوطي -رَحِمَهُ اللهُ- جعله كله من الحسن وما يقاربه، والذي يهمنا من ذلك هو دعوى وجود بعض الأحاديث الموضوعة الباطلة. فهناك من ادعى وجود ذلك في “المسند”، وهناك من أنكر.

فمن جملة من ادعى الوضع في “المسند” الحافظ ابن كثير، فقد قال في رده على أبي موسى المديني: وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن “مسند الإمام أحمد”: إنه صحيح، فقول ضعيف، فإن فيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة، كأحاديث فضائل مرو وعسقلان والبرث الأحمر عند حمص، وغير ذلك كما نبه عليه طائفة من الحفاظ. اهـ

وكذلك ادعى الوضع الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على “مقدمة ابن الصلاح” (10)، وفي جزء أفرده لبيان تلك الأحاديث والكلام عليها واحداً واحداً، وهي تسعة أحاديث. قال في مقدمته: وقع لنا في أثناء السماع كلام: هل في “المسند” أحاديث ضعيفة أو كله صحيح؟ فقلت: إن فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وإن فيه أحاديث يسيرة موضوعة.

ولا جرم أن دعوى الوضع قوبلت بالنقد والتحقيق من قبل جماعة من الحفاظ، منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد أورد في كتابه “القول المسدد في الذب عن مسند أحمد” الأحاديث التسعة التي جمعها الحافظ الراقي في جزء وانتقدها، وأضاف إليها خمسة عشر حديثاً أوردها الإمام ابن الجوزي في “الموضوعات”، وأجاب عنها حديثاً حديثاً، وقد فاته أحاديث أُخَر ذكرها ابن الجوزي في كتابه المذكور، فنقلها السيوطي في جزء، وسماها “الذيل الممهد” وأجاب عنها وعدتها أربعة عشر حديثاً.

وأقل ما يقال بعد النظر في هذه الأحاديث وما أجاب به العلماء عنها: إنها بالغة الضعف، وكثير منها يُعلم بطلان متونها بالبداهة، فلا يمكن أن تشد أزرها تلك المتابعات والشواهد. وهذا لا يضير “المسند” شيئاً؛ لأنها -كما قال الذهبي – قطرة في بحر.

ــــــــــ ،،، ــــــــــ

Exit mobile version