السحر في ضوء القرآن والسنة

ولاً: الأدلة على وجود الجن والشياطين[1]:

إن العلاقة قوية بين الجن والسحر، بل إن الجن والشياطين هم العامل الأساسي في السحر، ولقد أنكر بعض الناس وجود الجن، ومن ثم أنكَروا حدوث السحر؛ ولذلك فإني سأسرد الأدلة على وجود الجن والشياطين باختصار:

أولاً: الأدلة القرآنية:

1- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29].

2- وقال سبحانه: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ [الأنعام: 130].

3- ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33].

4- ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1].

5- ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].

6- ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91].

7- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21].

والأدلة من القرآن كثيرة معروفة، ويكفيك أن تعرف في القرآن سورةً كاملة عن الجن، بل يكفيك أن تعرف أن كلمة (الجن) ذُكِرَت في القرآن ثِنْتَيْنِ وعشرين مرة، وكلمة (الجان) سبعَ مراتٍ، وكلمة (الشيطان) ثمانِيَ وستين مرةً، وكلمة (الشياطين) سبعَ عشْرةَ مرَّةً، والشاهد أن الآيات في ذكر الجن والشياطين كثيرة.

ثانيًا: الأدلة من السنة:

1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعَاب، فقلنا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ؛ فَبِتْنَا بشرِّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبحْنَا إذا هو جاء من قِبَلِ حِرَاء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك، فلم نجدْك، فبتنا بِشَرِّ ليلة بات بها قوم، فقال: ((أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأْتُ عليهم القرآن))، قال: فانطَلَقَ بنا فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه عن الزاد فقال: ((لكم كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسم الله عليه يقع في أيديكم أَوفَرَ ما يكون لحمًا، وكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لدوابِّكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم))[2].

2- وعن أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أراك تُحِب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأَذَّنْتَ بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع صوتَ المؤذن جِنٌّ ولا إنس ولا شيء، إلاَّ شَهِدَ له يوم القيامة))[3].

3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عُكَاظ، وقد حِيلَ بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرْسِلَت عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرْسِلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيءٌ حَدَثَ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظُروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تِهَامةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلةَ عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2]، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾ [الجن: 1]، وإنما أُوحِيَ إليه قول الجن[4].

4- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خُلِقَت الملائكة من النور، وخُلِق الجان من مارج من نار، وخُلِق آدم مما وُصِفَ لكم))[5].

5- وعن صفيةَ بنتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم))[6].

6- وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله))[7].

7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود يُولد إلا نخسه الشيطان، فيستهلُّ صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابنَ مريم وأمَّه))[8].

8- وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ذُكِرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلةً حتى أصبح، قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه – أو في أذنه))[9].

9- وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحُلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه، فلينْفُث عن شماله ثلاثًا، وليتعوَّذْ من الشيطان؛ فإنها لا تضره))[10].

10- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تثاءب أحدكم، فَلْيُمْسِكْ بيده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل))[11].

والأحاديث في الباب كثيرة، وفي ذلك كفاية لطالب الحق، ومن هنا يتبين لنا أن الجن والشياطين حقيقة لا يعتريها ريب ولا شك، ولا يجادل في ذلك إلا مكابرٌ معاند، يتَّبع هواه بغير هدًى من الله[12].

ثانيًا: الأدلة على وجود السحر:

أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:

1- قال تعالى:

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102، 103].

2- ﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ [يونس: 77].

3- ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 81، 82].

4- ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 67 – 69].

5- ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 117 – 122].

6- ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 – 5].

قال القرطبي: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4]؛ يعني الساحرات اللائي ينفُثْنَ في عقد الخيط حين يَرْقِين بها؛ اهـ[13].

قال الحافظ ابن كثير: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4]؛ قال مجاهد وعِكْرمة والحسَن وقَتَادة والضَّحَّاك: يعني السواحر. ا هـ[14].

قال ابن جرير الطبري: أي: ومن شَرِّ السواحر اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، قال القاسمي: وبه قال أهل التأويل؛ اهـ[15].

والآيات في ذكر السحر والسحرة كثيرة مشهورة، عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام.

ثانيًا: الأدلة من السنة:

1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: “سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُرَيْقٍ يقال له: لَبيدُ بنُ الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم – أو ذات ليلة – وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: ((يا عائشةُ، أشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عن رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجَعُ الرجلِ؟ فقال: مطبوبٌ، قال: من طَبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مُشْطٍ ومُشاطة وجُفِّ طَلعِ نخلةٍ ذَكَر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوَان))، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين))، قلتُ: يا رسول الله، أفلا استخرجْتَهُ؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًّا))، فأمر بها فَدُفِنَتْ”[16].

معاني الكلمات:

• مطبوب: مسحور.

• مَن طبَّه: مَن سحَره؟

• المشاطة: الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند ترجيلهما.

• جف طَلْع نخلة: الجف هو الغشاء الذي يكون على الطلع.

• الطلع: هو ما يطلع من النخلة ثم يصير ثمرًا إذا كانت أنثى، وإن كانت ذكرًا لم يصر ثمرًا، بل يؤكل طريًا، ويترك على النخلة أيامًا معلومةً، حتى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق، وله رائحة زكية، فيلقح به الأنثى.

• نقاعة الحناء: حمراء مثل عصارة الحناء إذا وُضِعت في الماء.

• كأن نخلها رؤوس الشياطين: أي: إنها مستدقة كرؤوس الحيات، والحية يقال لها: الشيطان، وقيل: أراد أنها وَحِشَة المنظر، قبيحة الأشكال.

معنى الحديث:

اليهود – لعنهم الله – اتفقوا مع لبيد بن الأعصم، وهو من أسحر اليهود، أن يعمل سحرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطوه ثلاثة دنانير، وفعلاً قام ذلك الشقي بعمل السحر على شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه حصل عليها من جارية صغيرة كانت تذهب إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعقد عليها سحرًا له، ووضع السحر في بئر ذروان.

والظاهر من جمع طرق الحديث أن هذا السحر كان من نوع عَقْد الرجل عن زوجته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُخَيل إليه أنه يستطيع أن يجامع إحدى زوجاته، فإذا اقترب منها لم يستطع ذلك، ولم يَمَسَّ هذا السحرُ عقلَه، ولا سلوكياتِه، ولا تصرفاته، وإنما كان مقتصرًا على ما ذُكِر.

واختلف في مدة هذا السحر، فقيل: أربعين يومًا، وقيل غير ذلك، فالله أعلم، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه، وألح في الدعاء، فاستجاب الله دعاءه، وأنزل ملَكين، جلس أحدهما عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: ما به؟ فرَدَّ عليه الآخر: مطبوب – مسحور – قال: مَنْ سَحَرَه؟ قال: لَبيد بن الأعصم اليهودي، ثم بيَّن أنه سحره في مُشط ومُشاطة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه في جف طَلْع نخل ذكر؛ ليكون أقوى وأشد تأثيرًا، ثم دفنه تحت صخرة في بئر ذروان.

فلما انتهى الملَكان من تشخيص حالة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستخراج السحر، ودفنه، وفي بعض الروايات حرقه.

ومن جمع طرق الحديث يظهر أن اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم سحرًا من أشد أنواع السحر، وكان غرضهم قتله صلى الله عليه وسلم، ومِنَ السحر ما يَقْتُل كما هو معلوم، ولكن الله عصمه من كيدهم، فخُفِّف إلى أخف أنواع السحر، وهو الربط.

شبهة وجوابها:

قال المازري – رحمه الله -: قد أنكر هذا الحديثَ المبتدعةُ؛ من حيث إنه يحط منصب النبوة، ويُشكِّك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وقالوا: فلعله حينئذٍ يُخَيل إليه أن جبريل عليه السلام يأتيه، وليس ثَمَّ جبريلُ، وأنه أُوحِيَ إليه وما أُوحيَ إليه.

قال: وهذا الذي قالوه باطل قطعًا؛ لأن دليل الرسالة، وهو المعجزة، دل على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى، وعصمته صلى الله عليه وسلم فيه، وتجويزُ ما قام الدليل بخلافه باطلٌ[17].

قال أبو الجكني اليوسفي – رحمه الله -:

أما وقوع المرض للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب السحر، فلا يَجُر خللاً لمنصب النبوة؛ لأن المرض الذي لا نقص فيه في الدنيا يقع للأنبياء، ويزيد في درجاتهم في الآخرة عليهم الصلاة والسلام، وحينئذٍ فإذا خُيِّل له بسبب مرض السحر أنه يفعل شيئًا من أمور الدنيا، وهو لم يفعله، ثم زال ذلك عنه بالكلية بسبب إطلاع الله تعالى له على مكان السحر، وإخراجه إياه من محله ودَفْنِه، فلا نقص يلحق الرسالةَ من هذا كله؛ لأنه مرض كسائر الأمراض، لا تَسَلُّطَ له على عقله، بل هو خاص بظاهر جسده كبصره؛ حيث صار يُخَيَّل إليه تارة فعلُ الشيء من ملامسةِ بعض أزواجه، وهو لم يفعل، وهذا في زمن المرض لا يضر.

قال: والعجب ممن يظن هذا الذي وقع من المرض بسبب السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قادحًا في رسالته، مع ما هو صريح في القرآن في قصة موسى مع سَحَرة فرعون؛ حيث صار يخيَّل إليه من سحرهم أن عِصِيَّهم تسعى، فثبَّته الله، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه: 68 – 70].

ولم يقل أحد من أهل العلم، ولا من أهل الذكاء: إن ما خُيَّل لموسى عليه الصلاة والسلام أولاً من سَعْي عِصِيِّ السحرة – قادحٌ في رسالته، بل وقوع مثل هذا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام يزيد قوة الإيمان بهم؛ لكون الله تعالى ينصرهم على أعدائهم، ويخرِق لهم العادة بالمعجزات الباهرة، ويخذل السحرة والكفرة، ويجعل العاقبة للمتقين، كما هو مبيَّن في آيات الكتاب المبين؛ اهـ[18].

2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذْف المحصنات المؤمنات الغافلات))[19].

مفردات الحديث:

• الموبقات: المهلِكات.

• التولي: الفرار والنكوص.

• يوم الزحف: ساعة الجهاد في سبيل الله.

• قذف المحصنات: رمي المرأة بالزنا.

الشاهد:

والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَنا باجتناب السحر، وبيَّن أنه من الكبائر المهلكات، وهذا يدل على أن السحر حقيقة لا خرافة.

3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس علمًا من النجوم، اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد))[20].

مفردات الحديث

• من اقتبس: تعلم.

• شعبة: قطعة.

• زاد ما زاد: زاد من السحر ما زاد من النجوم.

الشاهد:

الشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وضَّح إحدى الطرق المؤدية إلى تعلم السحر؛ كي يحذَرَه المسلمون، وهذا دليل على أن السحر علم حقيقي يُتعلَّم، وما يدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]، فاتضح أن السحر علم كالعلوم، له أصوله التي يقوم عليها، والآية والحديث في مَعرِض ذم تعلُّم السحر.

4- وعن عِمران بن حُصَين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من تطيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))[21].

مفردات الحديث:

• تطير: تشاءم، وكان العربي في الجاهلية إذا أراد أن يسافر أطلق طيرًا؛ فإذا طار جهة اليمين، مضى في سفره، وإذا طار جهة الشمال، تشاءم ورجع.

• تَكَهن: ادعى معرفة الغيب.

• تُكُهِّن له: ذهب إلى كاهن يسأله عن المستقبل.

الشاهد:

الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السحر والذهاب إلى الساحر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا ينهى إلا عن شيء موجود وله حقيقة.

5- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنةَ مدمنُ خمر، ولا مؤمنٌ بسحر، ولا قاطعُ رحم))[22].

معنى الحديث:

ثلاثة لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يُعذَّبوا في النار فترةً لذنوبهم ومعاصيهم:

1- مدمن خمر: يعني شارب الخمر الذي أدمنها؛ يعني: يداوم على شربها.

2- مؤمن بسحر: يعتقد أن السحر يؤثر بذاته، لا بتقدير الله وإرادته.

3- قاطع رحم: هاجِرٌ لأقاربه، فلا يَصِلُهم، ولا يزورهم.

الشاهد:

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاعتقاد أن السحر يؤثر بذاته، وإنما يجب على المؤمن أن يعتقد أن السحر أو غيره لا يؤثر إلا بإرادة الله ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102].

6- قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أتى عرَّافًا أو ساحرًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم[23].

ثالثًا: أقوال العلماء:

1- قال الخطَّابي – رحمه الله تعالى -:

قد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحرَ، وأبطلوا حقيقته، والجواب: أن السحر ثابت، وحقيقته موجودة، اتفق أكثرُ الأمم من العرب والفُرْس والهند وبعض الروم على إثباته، وهؤلاء أفضل سكان أهل الأرض، وأكثرهم علمًا وحكمة.

وقد قال تعالى: ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]، وأمر بالاستعاذة منه فقال: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق:

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يجب عليك إغلاق حاجب الإعلانات لعرض صفحات الموقع