فتح مكة
فتح مكة (يُسمَّى أيضاً الفتح الأعظم)[2] غزوة وقعت في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة (الموافق 10 يناير 630م) استطاع المسلمون من خلالها فتحَ مدينة مكة وضمَّها إلى دولتهم الإسلامية. وسببُ الغزوة هو أن قبيلةَ قريشٍ انتهكت الهدنةَ التي كانت بينها وبين المسلمين، بإعانتها لحلفائها من بني الدئل بن بكرٍ بن عبد مناةٍ بن كنانة (تحديداً بطنٌ منهم يُقال لهم «بنو نفاثة») في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ المسلمين، فنقضت بذلك عهدَها مع المسلمين الذي سمّي بصلح الحديبية. وردّاً على ذلك، جَهَّزَ الرسولُ محمدٌ جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة، وتحرَّك الجيشُ حتى وصل مكة، فدخلها سلماً بدون قتال، إلا ما كان من جهة القائد المسلم خالد بن الوليد، إذ حاول بعضُ رجال قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل التصديَ للمسلمين، فقاتلهم خالدٌ وقَتَلَ منهم اثني عشر رجلاً، وفرَّ الباقون منهم، وقُتل من المسلمين رجلان اثنان.
ولمَّا نزل الرسولُ محمدٌ بمكة واطمأنَّ الناسُ، جاءَ الكعبة فطاف بها، وجعل يطعنُ الأصنامَ التي كانت حولها بقوس كان معه، ويقول: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا»[3] و«جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»،[4] ورأى في الكعبة الصورَ والتماثيلَ فأمر بها فكسرت. ولما حانت الصلاة، أمر الرسولُ محمد بلال بن رباح أن يصعد فيؤذن من على الكعبة، فصعد بلالٌ وأذّن.
كان من نتائج فتح مكة اعتناقُ كثيرٍ من أهلها دينَ الإسلام، ومنهم سيد قريش وكنانة أبو سفيان بن حرب، وزوجتُه هند بنت عتبة، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وغيرُهم.
صلح الحديبية وأسباب الفتح[
جزء من سلسلة مقالات حول |
مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد المُطَّلب الهَاشِمي القُرَشيّ |
---|
![]() |
˂سيرته |
˂أحداث وجوانب من حياته |
˂معجزاته |
˂نظراته وآراؤه |
˂خلافته |
˂تعظيمه ومدحه في الإسلام |
˂النظرات إليه |
˂أهل بيته |
˂أوصافه وخصاله |
˂آثاره ومقتنياته |
˂انظر أيضًا |
![]() |
|
صلح الحديبية
مقالة مفصلة: صلح الحديبية
في شهر ذي القعدة سنة 6هـ الموافق 628م، أمر الرسولُ محمدٌ أتباعَه باتخاذ الاستعدادات لأداء العمرة في مكة، بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابُه المسجد الحرام وطافوا واعتمروا، فخرج من المدينة المنورة يوم الاثنين غرّة ذي القعدة سنة 6هـ، في 1400 أو 1500 من المسلمين،[5] ولم يخرج بسلاح إلا سلاح المسافر (السيوف في القرب)، وساق معه الهدي سبعينَ بدنةً.[6] ولمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا مئتي فارسٍ بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة، لكنَّ الرسولَ محمدًا اتخذ طريقًا أكثر صعوبة لتفادي مواجهتهم،[7] حتى وصل إلى الحديبية على بعد 14,5 كيلومتراً (تسعة أميال) من مكة،[8] فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة فكلموه وسألوه عمَّا جاء به، فقال لهم الرسولُ محمد:[9]
إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذنّ الله أمره. |
فرجعوا إلى قريش فقالوا: «يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاءَ زائراً هذا البيت»، فاتهمتهم قريش وقالت: «وإن كان جاء ولا يريدُ قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب».[10] ثم بعثت قريش مكرز بن حفص بن الأخيف العامري القرشي، فلما رآه الرسول محمد مقبلاً قال: «هذا رجل غادر»، فلما انتهى إلى الرسول محمد وكلمه، قال له الرسول نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له الرسول محمد.[10]
ثم بعثت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وحلفاء قريش، فلما رآه الرسول محمد قال: «إن هذا من قومٍ يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الحليس بن علقمة الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرسولِ محمدٍ إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: «اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك»، فغضب عند ذلك الحليس وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتَخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد»، فقالوا له: «مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به».[11]
ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض المسلمين، فأعاد الرسولُ محمدٌ عليه نفس العرض، فعاد لمكة قائلاً: «والله ما رأيتُ ملِكًا يعظّمه أصحابُه ما يعظم أصحابُ محمدٍ محمدًا، والله ما تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها».[9]
ثم أرسل الرسولُ محمدٌ عثمان بن عفان إلى قريش ليفاوضهم، فتأخر في مكة حتى سرت إشاعة أنه قد قُتل،[7] فقرر الرسولُ أخذَ البيعة من المسلمين على أن لا يفرّوا، فيما عرف ببيعة الرضوان، فلم يتخلّف عن هذه البيعة أحد إلا جد بن قيس،[12] ونزلت في ذلك آيات من القرآن: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا
.[13] وخلال ذلك وصلت أنباء عن سلامة عثمان، وأرسلت قريشٌ سهيل بن عمرو لتوقيع اتفاق مصالحة عرف بصلح الحديبية، ونصّت بنوده على عدم أداء المسلمين للعمرة ذلك العام على أن يعودوا لأدائها العام التالي، كما نصّت على أن يَرُدَّ المسلمون أي شخص يذهب إليهم من مكة بدون إذن، في حين لا ترد قريش من يذهب إليهم من المدينة. واتفقوا أن تسري هذه المعاهدة لمدة عشر سنوات، وبإمكان أي قبيلة أخرى الدخول في حلف أحد الطرفين لتسري عليهم المعاهدة.[8] فدخلت قبيلة خزاعة في حلف الرسولِ محمدٍ، ودخل بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة[14] في حلف قريش،[8] ولمَّا فرغوا من الكتاب انطلق سهيل وأصحابه عائدين إلى مكة.
أسباب الفتح[
جزء من سلسلة مقالات حول |
الإسلام |
---|
![]() |
˂العقيدة |
˂أركان الإسلام |
˂مصادر التشريع |
˂شخصيات محورية |
˂طوائف إسلامية |
˂تاريخ إسلامي |
˂أعياد ومناسبات |
˂الإسلام حسب البلد |
˂انظر أيضاً |
|
كانت بين قبيلتي خزاعة وبني الدئل بن بكر عداوة وثارات في الجاهلية، سببها أن رجلاً من حضرموت اسمه مالك بن عباد الحضرمي كان يحالف الأسود بن رزن بن يعمر بن نفاثة الدؤلي، فخرج الحضرمي تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو الدئل على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قُبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن (وهم ذؤيب وأخواه كلثوم وسلمى، وكانوا منخر بني كنانة وأشرافهم) فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم. فبينما بنو الدئل بن بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية، دخلت خزاعة في حلف الرسول محمد ودخلت بنو الدئل بن بكر في حلف قريش، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الدئل بن بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأر أولئك النفر، فخرج نوفل بن معاوية بن عروة الديلي في جماعة من بني الدئل بن بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له «الوتير» جنوب غربي مكة، فأصابوا منهم رجالاً، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريشٌ بني الدئل بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو الدئل بن بكر: «يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك»، فقال: «لا إله اليوم، يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟»، ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع.[15]
ونتيجةً لذلك الغدر والنقض في العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من خزاعة حتى قدموا على الرسول محمد في المدينة المنورة، وأخبروه بما كان من بني الدئل بن بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش لبني الدئل بن بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على الرسول وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:[16]
يـا رب إنـي نـاشـدٌ مـحمدًا | حلف أبينا وأبيه الأتـلدا | |
قـد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا[17] | ثُمت أسلـمنـا فلم ننزع يداً | |
فانصر -هداك الله- نصرًا أعتداً | وادع عباد الله يأتوا مـدداً | |
فـيهـم رسـول الله قـد تـجردا | إن سيم خسفاً وجهه تـربدا | |
في فيلق كالبحر يجري مزبدًا | إن قريشًا أخلفوك الموعدا | |
ونـقضـوا ميـثاقك المـؤكدا | وجـعلوا لي في كَدَاءِ رُصَّداً | |
وزعـمـوا أن لست أدعو أحداً | وهـــم أذل وأقـــل عدداً | |
هم بيـتـونـا بالوتير هجّداً | وقـتلـونا ركَّـعـاً وسُـجَّداً |
فقال الرسول محمدٌ: «نُصرت يا عمرو بن سالم»[18]، ولما عرض السحاب من السماء قال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب»،[18][19] وبنو كعب هم خزاعة. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على الرسولِ محمد المدينةَ، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش لبني الدئل بن بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.[15] وجاء في رواية: إن الرسول محمداً بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم: «أما بعد، فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة، وإلا أوذنكم بحرب»، (ومعنى أتُدوا خزاعة: أي تدفعوا دية قتلاهم)، فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: «إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندى ما قتلوا لنا سبد، ولا لبد (السبد: الشعر، واللبد: الصوف، يعني إن فعلنا ذلك لم يبق لنا شيء)، ولا نبرأ من حلفهم، فلم يبق على ديننا أحد غيرهم، ولكن نؤذنه بحرب».[20] ولم يكن من بني بكر بن عبد مناة محالفاً لقريش على دينهم إلا بنو الدئل بن بكر. أما بنو ليث بن بكر وبنو ضمرة بن بكر فكانوا من المسلمين وفي جيش الفتح مع الرسول محمد.[21]
أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها، ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر الرسولُ محمد أصحابَه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم، قال: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة».[15]
وخرج أبو سفيان فلقي بديل بن ورقاء بعسفان وهو راجع من المدينة إلى مكة فقال: «من أين أقبلت يا بديل؟»، وظن أنه أتى الرسولَ محمداً، فقال: «سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي»، قال: «أوما جئت محمداً؟»، قال: «لا»، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: «لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى»، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: «أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً». وعند نزول أبي سفيان في المدينة دخل على ابنته أمِّ حبيبة زوجِ الرسول محمدٍ، وأراد أن يجلس على فراش الرسول فطوته عنه، فقال: «يا بنية، ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟»، قالت: «بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس»، قال: «والله لقد أصابك بعدي شر».[22]
ثم خرج أبو سفيان حتى أتى الرسولَ محمداً فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم الرسولَ، فقال: «ما أن بفاعل»، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله ﷺ؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به»، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، والحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: «يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد»، فقال: «ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله ﷺ على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه»، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة، فقال: «هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟»، قالت: «والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله ﷺ»، فقال لعلي بن أبي طالب: «يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني»، قال: «والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك»، قال: «أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟»، قال: «لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك»، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: «أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس»، ثم ركب بعيره وانطلق.[15]
ولما قدم أبو سفيان على قريش قالوا: «ما وراءك؟»، قال: «جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟»، قالوا: «وبم أمرك؟»، قال: «أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت»، قالوا: «فهل أجاز ذلك محمداً؟»، قال: «لا»، قالوا: «ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك»، قال: «لا والله ما وجدت غير ذلك».[15]
استعداد المسلمين للخروج[عدل]
منظر كاشف لمكة من على متن جبل النور
عندما قرر الرسول محمدٌ السير لفتح مكة، حرص على كتمان هذا الأمر؛ حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته، فقد كَتَمَ أمرَه حتى عن أقرب الناس إليه، فكَتَمَه عن صاحبه أبي بكر الصديق، وزوجته عائشة، فلم يعرف أحدٌ شيئًا عن أهدافه الحقيقية، ولا باتجاه حركته، ولا بالعدو الذي ينوي قتالَه،[16] وكان الرسولُ محمد قد أمر عائشة قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبوها أبو بكر الصديق، فقال: «يا بنية ما هذا الجهاز؟»، قالت: «والله ما أدري»، فقال: «والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟»، قالت: «والله لا علم لي».[15]
كما بعث الرسول محمد قبلَ مسيرة مكة سريةً مكونةً من ثمانية رجال إلى إضم، وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية،[16] وفي ذلك يقول ابن سعد: «لما همَّ رسول الله ﷺ بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم (وهو وادي المدينة الذي يجتمع فيه الوديان الثلاثة: بطحان، وقناة، والعقيق)،[16] ليظن الظان أن رسول الله ﷺ توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، فمضوا ولم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب (وهو موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد عن المدينة 35 ميلاً، أي 56 كيلومتراً تقريباً)، فبلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة، فأخذوا على “بيبين” حتى لقوا النبي ﷺ بالسُّقيا (وهي موضع يقع في وادي القرى).[23]»[24]
وأعد الرسولُ محمدٌ جيشًا وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل،[25][26] وبث رجالَ العسس بالدولة الإسلامية داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش، ثم دعا الله تعالى فقال: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة».[27] وعندما أكمل الرسولُ محمد استعدَاده للسير إلى فتح مكة، كتب الصحابيُّ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك الرسول إليهم، وأرسله مع امرأة مسافرة إلى مكة، ويؤمن المسلمون أن الله تعالى أطلع الرسولَ عن طريق الوحي على هذه الرسالة فقضى على هذه المحاولة وهي في مهدها،[16] فأرسل عليًّا والزبيرَ والمقدادَ فأمسكوا بالمرأة في “روضة خاخ” على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تُخرج الكتابَ فسلمته لهم، ثم استدعي حاطب للتحقيق، فقال: «يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقًا (أي حليفاً) في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام»، فقال الرسول محمد: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: «يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق»، فقال الرسول محمد: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»،[28] فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
.[29]
مسير المسلمين من المدينة إلى مكة[عدل]
« اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدًا » [30] |
— النبي محمد |
خرج الرسولُ محمدٌ قاصدًا مكة في العاشر من رمضان في العام الثامن للهجرة، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثومَ بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري الكناني،[31] وكان عددُ الجيش عشرةَ آلافٍ فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فسار هو ومن معه إلى مكة يصومُ ويصومون، فلما وصل الجيشُ منطقةَ الكديد (الماء الذي بين قديد وعسفان) أفطر وأفطر الناس معه،[32] وفي منطقة الجحفة لقيه عمُّه العباسُ بن عبد المطلب وقد خرج مهاجرًا بعياله، فسُرَّ الرسول محمدٌ.[33][34]
وخرج أبو سفيان بنُ الحارث الهاشمي القرشي وعبدُ الله بنُ أمية بنِ المغيرة المخزومي القرشي من مكة، فلقيا الرسولَ محمداً بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخولَ عليه، فكلمته أمُّ سلمة فقالت: «يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك»، فقال: «لا حاجة لي فيهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال»، فلما خرج الخبر إليهما بذلك -ومع أبي سفيان بن الحارث ابنٌ له- فقال: «والله ليأذنن رسولُ الله ﷺ أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشًا أو جوعًا»، فلما بلغ ذلك الرسولَ رقَّ لهما، فدخلا عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره عما كان مضى فيه فقال:[35]
لـعـمـرك إنـي يـوم أحـمـل رايـة | لتغـلب خيل اللات خـيـل مـحـمـد | |
لكـالمـدلج الـحيران أظـلم ليـله | فهـذا أوان الحـق أهـدي وأهتدي | |
فـقـل لثقيف لا أريـد قـتالـكم | وقـل لثقيف تلك عنـدي فأوعدي | |
هـدانـي هـادٍ غـيـر نـفسي ودلـني | إلـى اللـه مـن طـرَّدت كل مطـرد | |
أفـر سـريعًا جـاهـدًا عـن مـحـمـد | وأدعـى وإن لـم أنـتـسب لمحـمد | |
هـمُ عـصـبـة مـن لم يـقل بهـواهم | وإن كـان ذا رأي يُـلَـمْ ويفـنّـد | |
أريــد لأرضـيـهـم ولـسـت بـلاقــط | مع القوم ما لم أهد في كل مقعد | |
فما كنت في الجيش الذي نال عامراً | ومـا كـان عن غير لساني ولا يدي | |
قــبـائـل جـاءت مـن بـلاد بعـيدة | تـوابع جاءت مـن سـهـام وسـردد | |
وإن الـــذي أخــرجـتـمُ وشـتـمتمُ | سـيـسـعى لكم امـرؤ غيـر مقـدد |
فلما أنشد الرسولَ محمداً قوله: «إلى الله من طردت كل مطرد»، ضرب الرسولُ محمد في صدره فقال: «أنت طردتني كل مطرد»،[36][37] وكان أبو سفيان بنُ الحارث يهجو الرسولَ محمداً بشعره كثيرًا، وأما عبد الله بنُ أمية فقد قال للرسول محمدٍ: «فوالله لا أومن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصكّ معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول، ثم وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك».[38] ومع ذلك فإن الرسولَ محمداً عفا عنهما وقبل عذرهما.
وتابع الرسولُ محمد سيرَه حتى أتى مر الظهران، وهو وادٍ شمال مكة بـ 22 كيلومتراً، فنزل فيه عشاءً، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب.[39][40]
إسلام أبي سفيان بن حرب سيد مكة[عدل]
بعد أن نزل الرسولُ محمد مر الظهران، وأوقد الجيشُ عشرةَ آلاف نار، رأى الصحابيُّ العباس بن عبد المطلب ذلك، وهذه قصة ماحدث يرويها العباسُ بنفسه:[41][42]
فقلت: «واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر»، وركب بغلة رسول الله وخرج يلتمس من يوصل الخبر إلى مكة ليخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، وكان أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا يلتمسون الأخبار، فلما رأوا النيران قال أبو سفيان: «ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا»، فقال بديل: «هذه والله خزاعة حمشتها الحرب»، فقال أبو سفيان: «خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها»، وسمع العباسُ أصواتَهم فعرفهم فقال: «يا أبا حنظلة»، فقال: «أبو الفضل؟»، قلت: «نعم»، قال: «ما لك، فداك أبي وأمي؟»، قال العباس: قلت: «ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله ﷺ في الناس، واصباح قريش والله!»، قال: «فما الحيلة فداك أبي وأمي؟»، قال: قلت: «والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك»، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: «من هذا؟»، فإذا رأوا بغلة رسول الله ﷺ وأنا عليها قالوا: «عمُّ رسول الله على بغلته»، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: «من هذا؟»، وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: «أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغَير عقد ولا عهد»، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ﷺ، ودخل عليه عمر فقال: «يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه»، قال: قلت: «يا رسول الله، إني قد أجرته»، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: «مهلاً يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف»، فقال: «مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب لو أسلم»، فقال ﷺ: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به»، فلما أصبح غدوت به، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟»، قال: «بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد»، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟»، قال: «بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا»، فقال له العباس: «ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك»، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم، قال العباس: قلت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا»، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها»، قال: فخرجت حتى حبسته حيث أمرني رسول الله ﷺ، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: «يا عباس من هذه؟»، فأقول: «غفار»، فيقول: «ما لي ولغفار»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «سليم»، فيقول: «ما لي ولسليم»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «مزينة»، فيقول: «يا أبا الفضل ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «جهينة»، فيقول: «ما لي ولجهينة»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «كنانة: بنو ليث بن بكر وبنو ضمرة بن بكر»، فيقول: «نعم، أهل شؤم والله، هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شُووِرت فيهم ولا علمته، ولكنه أمر حُتِم»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «أشجع»، فيقول: «هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد»، حتى مر به رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: «سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟»، قال: قلت: «هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار»، قال: «ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة»، ثم قال: «والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا»، قال: قلت: «يا أبا سفيان: إنها النبوة»، قال: «فنعم إذن»، قال: قلت: «النجاء إلى قومك». |
لقد تعمد الرسول محمد شن الحرب النفسية على أعدائه أثناء سيره لفتح مكة،[16] حيث أمر الرسول بإيقاد النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق، فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القرشيين من شدة هوله،[43] وقد قصد الرسولُ محمد من ذلك تحطيمَ نفسيات أعدائه والقضاءَ على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارَهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيقُ هدفه دون إراقة دماء.[16]
الاقتراب من مكة والتخطيط لفتحها[عدل]

صورة للمسجد الحرام والكعبة المشرفة عام 1880، والتي كان حولها قديماً 360 صنمًا هدمها الرسول محمدٌ عند فتح مكة
عندما وصل الرسولُ محمدٌ إلى ذي طوى وزع المهام على النحو الآتي:
- جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب، فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: «إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا».[15]
- جعل الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وبعثه على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه.
- جعل أبا عبيدة على البياذقة (الرجالة) وبطن الوادي.
- بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة الرسولِ محمدٍ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وبهذا كانت المسؤولياتُ واضحةً، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه.[44]
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مرَّ بأبي سفيان قال له: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً»، فلما حاذى الرسولُ محمد أبا سفيان قال: «يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟»، قال: «وما قال؟»، فقال: كذا كذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: «يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة»، فقال الرسولُ محمد: «بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً»، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس بن سعد بن عبادة، وقيل أن اللواء لم يخرج عن سعد، وقيل: بل دفعه إلى الزبير.[15]
وقال الرسولُ محمد: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار»، فدعاهم فجاءوا يهرولون، فقال: «يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟»، قالوا: «نعم»، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا»، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا».[45]
ودخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته: «يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: «اقتلوا الحميث الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم»، قال: «ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، قالوا: «قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟»، قال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.[46]
دخول المسلمين مكة
رسم عثماني يعود لحوالي 1595 يصور النبي وقد غطي وجهه مع أصحابه وهم يدخلون مكة، بحضور الملائكة جبريل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل[47]
دخلت قواتُ المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ، ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريباً، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش، حيث عجزت عن التجمع، وضاعت منها فرصةُ المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسولُ محمدٌ عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمودَ أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وُجّه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد بن الوليد،[48] فقد تجمع بعضُ رجال قريش ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه «الخندمة» وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام، وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم، وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيشُ السيطرةَ على مكة المكرمة.[49]
وقُتل من المسلمين كرز بن جابر الفهري القرشي وخنيس بن خالد الخزاعي، وكانا قد شذّا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما المشركون فإن المسلمين قد أصابوا اثني عشر رجلاً منهم فانهزموا وفرّوا.[15]
ويُروى أن رجلاً من بني الدئل بن بكر من قبيلة كنانة اسمه حماس بن خالد الدئلي الكناني، كان قد أعد سلاحًا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: «لماذا تعدُّ ما أرى؟»، فيقول: «لمحمد وأصحابه»، وقالت امرأته له يومًا: «والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شيء»، فقال: «إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم»، ثم قال يرتجز:
إن يـقـبـلـوا الـيـوم فـما لي عـلـة | ||
هـــذا ســـلــاح كـــامـــل وألَّـــة | ||
وذو غــراريـن ســريــع الـــســلــة |
فلما جاء يوم الفتح كان ممن قاتل مع عكرمة، ثم حين انهزم جند عكرمة، خرج منهزمًا حتى بلغ بيته فقال لامرأته: «أغلقي عليَّ الباب»، فقالت المرأة له: «فأين ما كنت تقول؟»، فقال يعتذر لها:[50]
إنك لو شهدت يوم الخندمة | إذ فـر صفـوان وفـر عكـرمـة | |
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة | واستقبلتهم بالسيوف المسلمة | |
يقطـعن كل سـاعد وجمـجمة | ضـربًا فـلا تـسـمع إلا غمـغمة | |
لهم نهيتٌ خلفـنا وهمـهمة | لم تنـطق باللوم أدنى كلمة |
وأقبل خالدٌ بن الوليد يجوس مكة حتى وافى الرسولَ محمداً على الصفا. وأما الزبير بن العوام فقد تقدم حتى نصب راية الرسولِ محمد بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه الرسول.[15]
وحرص الرسولُ محمدٌ أن يدخل الكداء التي بأعلى مكة[51] تحقيقًا لقول صاحبه الشاعر حسان بن ثابت، حين هجا قريشاً وأخبرهم «بأن خيل الله تعالى ستدخل من كداء»، حيث قال:[52]
عدمنا خيلنا إن لم تروها | تثير النقع موعـدها كـداءُ | |
يـنـازعـن الأعنـة مصغيات | على أكتافها الأسل الظـماءُ | |
تـظـل جيـادنـا متمـطرات | يلـطمهـن بالخُمُرِ النـسـاءُ | |
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا | وكان الفتح وانكشف الغطاءُ | |
وإلا فـاصبـروا لجـلاد يوم | يعز اللـه فيـه مـن يشـاءُ | |
وجبـريـل رسـول الله فـيـنا | وروح القـدس ليس له كفـاءُ | |
وقـال الله قد أرسـلت عبـداً | يقول الحق إن نفـع البـلاءُ | |
شهـدت بـه فقومـوا صدقوه | فقلـتـم لا نقـوم ولا نشـاءُ | |
وقال اللـه قد سيرت جندًا | هم الأنصار عرصتها اللقـاءُ | |
لنا في كـل يـوم من معـد | سبـاب أو قتـال أو هـجـاءُ | |
فنحكم بالقوافي من هجانا | ونضرب حين تختـلط الدمـاءُ | |
ألا أبـلغ أبا سفيـان عني | مغلـغلة فقد بـرح الخفـاءُ | |
بأن سيوفنا تركـتـك عبدًا | وعبد الدار سادتها الإمـاءُ | |
هجوتَ محمدًا فأجـبـتُ عنـه | وعند الـله في ذاك الجزاءُ | |
أتهجـوه ولست لـه بكـفء؟ | فشركـمـا لخيركـما الفداءُ | |
هجوت مباركًا بـرًّا حنـيفًا | أميـن الله شـيمـتـه الوفـاءُ | |
أمن يـهـجـو رسول الله منكم | ويـحمـده ويـنـصـره سـواءُ | |
فإن أبي ووالـده وعـرضـي | لـعـرض محـمد منـكم وقـاءُ | |
لسـاني صـارم لا عـيب فيه | وبـحـري لا تـكـدره الـدلاءُ |
ومما يؤيد حرص الرسولِ محمد على دخوله من كداء ما جاء عن عبد الله بن عمر، إذ قال: لما دخل رسول الله ﷺ عام الفتح، رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر؛ فتبسم إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر، كيف قال حسان؟»، فأنشده قوله:[53]
تـظـل جيـادنـا متمـطرات | يلـطمهـن بالخُمُرِ النـسـاءُ |
ودخل الرسولُ محمدٌ مكةَ وعليه عمامة سوداء